نشأت الحاجة إلى التعليم منذ بدء النشاط البشري على الأرض مستهدف نقل المعرفة وتعلم المهارات التي يحتاجها النشء في ذلك الزمن والتي تمكن الإنسان من الاستمرار في العيش وكسب رزقه وسد حاجاته، ومع تطور الظروف ونشوء التجمعات البشرية وازدهارها احتاج الإنسان إلى وسائل أكثر تطورا لتلبية حاجات التعلم والتعليم فنشأت الكتاتيب التي تطورت فكرتها فيما بعد إلى المدارس النظامية كما حدث في مصر القديمة واليونان، وفي الشرق حيث وضع الفيلسوف الصيني كنفوشيوس مذهبه في التعليم الذي أثر على النظم التعليمية والمناهج في دول الشرق الأقصى.
جاءت الثورة التقنية وتطور نظم الاتصالات ليحدثا انقلابا ملموسا في أساليب التواصل بين المعلم والمتلقي، ومع بدء ثورة الإنترنت وتوسع الشبكة العنكبوتية أصبح الوصول إلى المعلومة أسهل من ذي قبل، ولكن هذا لم يلغ الحاجة إلى استمرار عملية التعليم بمكوناتها الأساسية وهي المعلم والتلميذ والمنهاج والبيئية التعليمية والمنزل وان اختلفت الأساليب والأدوات.
في الآونة الأخيرة أصبح موضوع الالتزام بأسلوب وأنظمة وشكل المدرسة التقليدية محل تساؤل عن مدى جدواه والحاجة إليه، إذ وفرت أنظمة الاتصال الحديثة سهولة الوصول إلى المعلومة وإمكانية التواصل مع المعلم دون الحاجة إلى الانتقال من المنزل مما يوفر الكثير من الأموال والجهود ويوفر في المباني ووسائل النقل! يطرح مؤيدو فكرة التعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد هذه المبررات القوية في دعم فكرة الانتقال الكامل من التعليم التقليدي إلى التعليم الحديث خصوصا مع تطور البرمجيات وجودة نقل الصورة والصوت التي قدمتها برمجيات حديثة مثل (مايكروسوفت تيمز وزووم وأدوات جوجل التعليمية وبلاك بورد) والتي أثبتت نجاحها في البيئات التي توفر خطوط اتصال قوية ويملك مستخدموها أجهزة حديثة قادرة على الوصول بجودة عالية.
على الطرف الآخر يتمسك مؤيدو المدرسة التقليدية بأن المدرسة بشكلها القديم ما زالت حاجة ملحة لإحداث التفاعل الإنساني اللازم لتعلم المهارات اللازمة وان المعلم قادر على إحداث التغييرات السلوكية عند الأطفال بالتفاعل المباشر أكثر من التعليم الافتراضي، ناهيك عن كثرة المشاكل التقنية وضعف الاتصالات في البيئات الفقيرة وانعدامها في نطاق جغرافي واسع لا يستهان بحجمه في العالم.
عند بدء الإغلاقات العالمية مع تفشي وباء كورونا في 2019 ووصولها إلى ذروتها في 2020 وجد العالم نفسه أمام اختبار حقيقي استعد له الجميع ولكن بنسب متفاوتة، إذ استطاعت بعض الدول أن تنتقل إلى التعليم الإلكتروني وعن بعد دون معوقات كما حدث في دولة سنغافورة بينما عجزت بعض الدول عن توفير حلول حقيقية، فيما استطاعة دول كثيرة أن تسد الفجوة وتسير العام الدرسي كيفما أتفق فما لا يدرك كله لا يترك جله.
عند انتهاء الأزمة أميط اللثام عن نتائج التجربة التي أكدت أنه لا غنى عن التعليم بشكله التقليدي لما يوفره من التفاعل البشري اللازم لتعلم المهارات وتشجيع الفعل الجماعي، وفي نفس الوقت أدركت البشرية أن التقنية الحديثة قادرة على توفير حلول نوعية عند الأزمات، وان التقنية محفزة لعملية التعلم وداعمة لها في الوصول إلى المعرفة ودعم المهارات خصوصا أن الطالب سيتخرج من المدرسة ثم الجامعة ليتعامل مع أدوات التقنية في بيئة العمل لا محال، وأن افتقاد هذه المهارات سيفقد الخريج فرصة المنافسة على الوظائف في سوق عمل يعتمد على التقنية والوصولية في جميع قطاعاته.
يقودنا ما سبق إلى استخلاصات تؤيد التوجه نحو التعليم المدمج أو التعليم المختلط الذي يعرفه قاموس أكسفورد كنوع من التعليم تدرس فيه المواضيع الدراسية في الغرفة الصفية باستخدام التقنيات المختلفة، والتعلم من خلال شبكة الإنترنت. يعطي التعليم المدمج الفرصة للمعلمين والطلاب التعلم الوجاهي حيث يتواصل الجميع باستخدام كافة الأساليب بما فيها لغة الجسد التي تشكل جزءا كبيرا في عملية التواصل وفهم الطرف الآخر، وفي نفس الوقت لا تنقطع صلة الطلاب بكنز المعلومات الذي توفره الشبكة العنكبوتية وإمكانية البحث والتقصي وربط البيانات وتبادلها مع طلاب الفصل الواحد أو المدرسة. يتمكن الطلاب من التدرب على البرمجيات والتعرف على آخر التقنيات الحديثة التي تحرص كل منظومة تعليمية على توفيرها لطلابها، وقد ساهم صانعو المحتوى التعليمي في العقدين الأخيرين على إصدار نسخ تفاعلية من المناهج التي ينتجونها، فلم يعد المحتوى الورقي هو المهيمن في سوق النشر، فكل كتاب لا يمتلك رابطا الكتروينا تفاعليا لاستخدام الطالب غير مؤهل للانتشار ضمن المنظومات التعليمية الحديثة.